أبو زكريّا
08-06-2011, 03:00 PM
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد ، يقول عز وجل في كتابه العزيز: إنّا أنزلنا إليك التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيّون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيّون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون- المائدة 44. ذلك أن إنزال التوراة كان الغرض منه تحكيمها في شؤون النّاس ولذلك ورد في القرآن --يحكم بها النبيون- كما ورد قوله تعالى -بما استحفظوا من كتاب الله- كناية عن هذا التطبيق وماهيته وصفته وتضيف الآية -وكانوا عليه شهداء- أي أنهم شهدوا أنّ ذلك هو فعلا الشرع الوارد في رسالة نبيّهم.
والمولى عزّ وجلّ يطالبهم بعدم الخشية من النّاس الذين لا يريدون تطبيق أحكام الله في الحياة ، موصيا بالثبات على الموقف المبدئي بتطبيق ما أنزل الله وعدم قبول المساومة على ذلك أبدا. وإذا كان موقف القرآن ممن خالف ذلك من الأنبياء -وحاشا لله أن يقعوا في ذلك ، إلاّ أن الأمر هو تشريع وبيان لقاعدة في أصول الحكم ، فالأنبياء هنا كناية على كلّ من جاءته الرسالة وآمن بها واحتكم اليها- أو من يقدم على ذلك منهم ، أي على شراء بآيات الله ثمنا قليلا ، فحكمهم وواقعهم كما تنصّ عليه الآية –فأولائك هم الكافرون- وحاشا لله أن يقع الأنبياء في ذلك لأنهم معصومون ومبلّغين عن المولى عز وجل ، فما يفهم هو أنّ الأمر تشريع وسنّ لقاعدة فقهيّة أو أصوليّة -وطبعا هنا العبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، والعلّة تدور مع المعلول وجودا وعدما-.
لذلك يعمّم الأمر والحكم على كلّ حاكم في كلّ زمان ومكان وإذا كان من يفعل ذلك يكفر ولو كان نبيّا – وحاشاهم أن يفعلوا ذلك لعصمتهم- فما بالك بمن هم دونهم من النّاس. فالمسألة هنا متعلّقة بالحكّام ، بما أنّ عمل الأنبياء كان تطبيق ما جاؤوا به على النّاس ، وبما أنّ المولى طالبهم بعدم الرضوخ للمساومات وبعدم التنازل عن ذلك مهما كانت المغريات ، وبعدم الخشية من النّاس ، فإنّ كلّ ذلك يمثل قرائن على خطورة الأمر وعلى كونه مصيريّا لأنّه ليس أعظم من الكفر ذنبا ، باعتبار أنّ الآية حكمت بكفر من يقع في ذلك ولو كان نبيّا.
أما الآية الثانية فقد تعلّقت بالقضاة ، بدليل قوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون -المائدة45. ويستطرد القرآن متحدّثا عن النوع الثالث من الحاكمين بغير ما أنزل الله وهم عامّة الناس بدليل قوله تعالى: وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى وموعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون -المائدة47 ، فأهل الإنجيل هم المسيحيّون وحكمهم بما أنزل الله هو تطبيقهم لأحكام الإنجيل في حياتهم. وعندئذ يكون حكم من لم يحكم بما أنزل الله من أهل الإنجيل هو فسق منهم. وإذا كان هنا أيضا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فانّه يكون حكم القوم الذين لا يطبّقون شرعتهم هو الفسق وهو الحكم الذي ينطبق على المسلمين إن وقعوا في ذلك. بدليل الآيات 49 و50 من سورة المائدة والتي سنستشهد بها لاحقا.
وقد خاطب المولى عزّ وجلّ رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلّم موجّها له القول في نفس الموضوع بقوله عزّ وجلّ : وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ مصدّقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحقّ لكلّ جعلنا شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون-48 المائدة ، هذه الآية تتعلّق بالطوائف والأمم الغير مسلمة والتي تريد أن تثني رسول الله عمّا جاءه من الحقّ ، مثل مراودته على إتباع أهوائهم ، ولكن الله مع تشديده على الرسول الكريم على عدم الاستجابة لأهوائهم ، فانّه يبيّن واقعا وهو أنّ لكلّ أمّة شرعة ومنهاجا ، ومن الطبيعي أن يكون للمسلمين شرعتهم ومنهاجهم الذي يختلف عمّا لدى الأمم الأخرى ولم يكتفي بذلك فحسب بل يقرّر أنّ الدين الإسلامي ليس فقط مصدّقا لما بين يدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم من الكتاب بل أيضا وهو الأهمّ أنّه المهيمن عليها في تقرير يوحي بأن الأنظمة الإسلاميّة هي أنظمة لكلّ البشر ليكون الحكم بما أنزل الله هو الأصل الذي يجب أن يطبّق في حياة البشريّة وليس الأنظمة الوضعيّة التي نكتوي بنيرها اليوم وتسبب لنا كل الكوارث والأزمات. ويمضي القرآن في هذا الموضوع ناصحا رسولنا الكريم بأن لا يرضخ كذلك للضغوط الداخليّة من المنافقين ومن أصحاب الأهواء القويّة والتي تراوده على التبديل والتغيير وعن التنازل عن الحقّ ، قال عزّ وجلّ :وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فان تولّوا فاعلم أنّما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإنّ كثيرا من النّاس لفاسقون –المائدة 49 ، وإذا كان المولى عزّ وجلّ قد شدّد على عدم التنازل عن البعض ممّا أنزل على رسوله فما بالك بكل الشرع فتكون المصيبة أعظم وأخطر وأجلّ ، ولذلك كان واجب على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بوصفه حاكما للمسلمين أن لا يحيد عن شريعة الإسلام لا مع الأمم والشعوب الأخرى ولا مع المسلمين ، ليكون هذا الموقف موقف كلّ حاكم مسلم يؤمن بالله ويخشى الله ويتّقه ، وأن يكون موقفه هذا مبدئيّا لا يخضع للمساومة ولا للنقاش ، لأنّ ذلك هو الحقّ والقول الفصل.
ثم إن تولي المسلمين عن بعض ما أنزل الله أو عن كل ما أنزله إنما يكون بفعل الذنوب والمعاصي وهو نتيجة طبيعية لفسقهم ولبعدهم عن أحكام دينهم ، ذلك أنّ إرادة الفسق تتعارض مع إرادة الحقّ والقرآن يتساءل مستنكرا -أفحكم الجاهلية يبغون... الآية 50- مقرّرا في قطع لا لبس فيه أنّ لا أحسن من حكم الله لقوم يوقنون. ويمضي النصّ القرآني في نفس السياق : يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتوّلهم منكم فانّه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين –المائدة51 ومعنى اتخاذهم أولياء في هذه الآية الكريمة هو إتباع شرائعهم مصداقا لقوله تعالى في سورة الأنعام الآية 127 : والله وليّهم بما كانوا يعملون-. والقرآن يثبّت موالاة اليهود والنصارى بعضهم لبعض ، ولكن الذي يتولاّهم من المسلمين يصبح منهم ويرتدّ عن دينه لدلالة القرآن الصريحة على ذلك. يقول عزّ وجلّ : يا أيّها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ...إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون –المائدة 56
فما هي أوصاف الذين نهانا القرآن عن اتخاذهم أولياء ؟
يقول عزّ وجلّ في كتابه الكريم : لا تتّخذوا الذين اتّخذوا دينكم لهوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء واتّقوا الله إن كنتم مؤمنين . وإذا ناديتم إلى الصلاة اتّخذوها هزوا ولعبا ...قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلاّ أن آمنا بالله وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ...كثيرا ما أنزل إليهم طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلّما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين –المائدة 46 وكأنّ بالقرآن يصف وصفا دقيقا واقعنا الأممي الآن إذ يهزأ العالم بديننا ويسخر من إقامتنا للصلاة وينقم منّا لإيماننا بالله وبما جاء به سيّدنا محمدا صلى الله عليه وسلّم ، والحقّ الذي جاء به الاسلام شرعة ومنهاجا التي تصفه الآيات القرآنية تزيدهم طغيانا وكفرا وتجعلهم يصرّون على إشعال الحروب وعلى السعي لإفساد كلّ شيء في الأرض ، وهذا ما يجعلهم مفسدين!!
ويمضي القرآن مخاطبا رسول الله ، الحاكم والقائم بشؤون الحكم قائلا : يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من النّاس إن الله لا يهدي القوم الكافرين-المائدة 67 ، فالمولى عزّ وجلّ لم يكتفي بالتشديد على رسول الله ومن ورائه على كلّ حاكم مؤمن بالإسلام أن يتمسّك بشرع الله فقط بل أن يتولى تبليغه للأمم وللشعوب الأخرى في دلالة على نوع السياسة الخارجيّة الواجب إتباعها باعتبار مسؤوليّته ومسؤوليّة كلّ المسلمين عمّا يحدث في الحياة الدوليّة لإنقاذ كلّ البشر من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وذلك لن يتحقق إلا بحمل هذا الدين رسالة للعالمين.
والسلام
أما بعد ، يقول عز وجل في كتابه العزيز: إنّا أنزلنا إليك التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيّون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيّون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون- المائدة 44. ذلك أن إنزال التوراة كان الغرض منه تحكيمها في شؤون النّاس ولذلك ورد في القرآن --يحكم بها النبيون- كما ورد قوله تعالى -بما استحفظوا من كتاب الله- كناية عن هذا التطبيق وماهيته وصفته وتضيف الآية -وكانوا عليه شهداء- أي أنهم شهدوا أنّ ذلك هو فعلا الشرع الوارد في رسالة نبيّهم.
والمولى عزّ وجلّ يطالبهم بعدم الخشية من النّاس الذين لا يريدون تطبيق أحكام الله في الحياة ، موصيا بالثبات على الموقف المبدئي بتطبيق ما أنزل الله وعدم قبول المساومة على ذلك أبدا. وإذا كان موقف القرآن ممن خالف ذلك من الأنبياء -وحاشا لله أن يقعوا في ذلك ، إلاّ أن الأمر هو تشريع وبيان لقاعدة في أصول الحكم ، فالأنبياء هنا كناية على كلّ من جاءته الرسالة وآمن بها واحتكم اليها- أو من يقدم على ذلك منهم ، أي على شراء بآيات الله ثمنا قليلا ، فحكمهم وواقعهم كما تنصّ عليه الآية –فأولائك هم الكافرون- وحاشا لله أن يقع الأنبياء في ذلك لأنهم معصومون ومبلّغين عن المولى عز وجل ، فما يفهم هو أنّ الأمر تشريع وسنّ لقاعدة فقهيّة أو أصوليّة -وطبعا هنا العبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، والعلّة تدور مع المعلول وجودا وعدما-.
لذلك يعمّم الأمر والحكم على كلّ حاكم في كلّ زمان ومكان وإذا كان من يفعل ذلك يكفر ولو كان نبيّا – وحاشاهم أن يفعلوا ذلك لعصمتهم- فما بالك بمن هم دونهم من النّاس. فالمسألة هنا متعلّقة بالحكّام ، بما أنّ عمل الأنبياء كان تطبيق ما جاؤوا به على النّاس ، وبما أنّ المولى طالبهم بعدم الرضوخ للمساومات وبعدم التنازل عن ذلك مهما كانت المغريات ، وبعدم الخشية من النّاس ، فإنّ كلّ ذلك يمثل قرائن على خطورة الأمر وعلى كونه مصيريّا لأنّه ليس أعظم من الكفر ذنبا ، باعتبار أنّ الآية حكمت بكفر من يقع في ذلك ولو كان نبيّا.
أما الآية الثانية فقد تعلّقت بالقضاة ، بدليل قوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون -المائدة45. ويستطرد القرآن متحدّثا عن النوع الثالث من الحاكمين بغير ما أنزل الله وهم عامّة الناس بدليل قوله تعالى: وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى وموعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون -المائدة47 ، فأهل الإنجيل هم المسيحيّون وحكمهم بما أنزل الله هو تطبيقهم لأحكام الإنجيل في حياتهم. وعندئذ يكون حكم من لم يحكم بما أنزل الله من أهل الإنجيل هو فسق منهم. وإذا كان هنا أيضا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فانّه يكون حكم القوم الذين لا يطبّقون شرعتهم هو الفسق وهو الحكم الذي ينطبق على المسلمين إن وقعوا في ذلك. بدليل الآيات 49 و50 من سورة المائدة والتي سنستشهد بها لاحقا.
وقد خاطب المولى عزّ وجلّ رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلّم موجّها له القول في نفس الموضوع بقوله عزّ وجلّ : وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ مصدّقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحقّ لكلّ جعلنا شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون-48 المائدة ، هذه الآية تتعلّق بالطوائف والأمم الغير مسلمة والتي تريد أن تثني رسول الله عمّا جاءه من الحقّ ، مثل مراودته على إتباع أهوائهم ، ولكن الله مع تشديده على الرسول الكريم على عدم الاستجابة لأهوائهم ، فانّه يبيّن واقعا وهو أنّ لكلّ أمّة شرعة ومنهاجا ، ومن الطبيعي أن يكون للمسلمين شرعتهم ومنهاجهم الذي يختلف عمّا لدى الأمم الأخرى ولم يكتفي بذلك فحسب بل يقرّر أنّ الدين الإسلامي ليس فقط مصدّقا لما بين يدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم من الكتاب بل أيضا وهو الأهمّ أنّه المهيمن عليها في تقرير يوحي بأن الأنظمة الإسلاميّة هي أنظمة لكلّ البشر ليكون الحكم بما أنزل الله هو الأصل الذي يجب أن يطبّق في حياة البشريّة وليس الأنظمة الوضعيّة التي نكتوي بنيرها اليوم وتسبب لنا كل الكوارث والأزمات. ويمضي القرآن في هذا الموضوع ناصحا رسولنا الكريم بأن لا يرضخ كذلك للضغوط الداخليّة من المنافقين ومن أصحاب الأهواء القويّة والتي تراوده على التبديل والتغيير وعن التنازل عن الحقّ ، قال عزّ وجلّ :وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فان تولّوا فاعلم أنّما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإنّ كثيرا من النّاس لفاسقون –المائدة 49 ، وإذا كان المولى عزّ وجلّ قد شدّد على عدم التنازل عن البعض ممّا أنزل على رسوله فما بالك بكل الشرع فتكون المصيبة أعظم وأخطر وأجلّ ، ولذلك كان واجب على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بوصفه حاكما للمسلمين أن لا يحيد عن شريعة الإسلام لا مع الأمم والشعوب الأخرى ولا مع المسلمين ، ليكون هذا الموقف موقف كلّ حاكم مسلم يؤمن بالله ويخشى الله ويتّقه ، وأن يكون موقفه هذا مبدئيّا لا يخضع للمساومة ولا للنقاش ، لأنّ ذلك هو الحقّ والقول الفصل.
ثم إن تولي المسلمين عن بعض ما أنزل الله أو عن كل ما أنزله إنما يكون بفعل الذنوب والمعاصي وهو نتيجة طبيعية لفسقهم ولبعدهم عن أحكام دينهم ، ذلك أنّ إرادة الفسق تتعارض مع إرادة الحقّ والقرآن يتساءل مستنكرا -أفحكم الجاهلية يبغون... الآية 50- مقرّرا في قطع لا لبس فيه أنّ لا أحسن من حكم الله لقوم يوقنون. ويمضي النصّ القرآني في نفس السياق : يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتوّلهم منكم فانّه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين –المائدة51 ومعنى اتخاذهم أولياء في هذه الآية الكريمة هو إتباع شرائعهم مصداقا لقوله تعالى في سورة الأنعام الآية 127 : والله وليّهم بما كانوا يعملون-. والقرآن يثبّت موالاة اليهود والنصارى بعضهم لبعض ، ولكن الذي يتولاّهم من المسلمين يصبح منهم ويرتدّ عن دينه لدلالة القرآن الصريحة على ذلك. يقول عزّ وجلّ : يا أيّها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ...إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون –المائدة 56
فما هي أوصاف الذين نهانا القرآن عن اتخاذهم أولياء ؟
يقول عزّ وجلّ في كتابه الكريم : لا تتّخذوا الذين اتّخذوا دينكم لهوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء واتّقوا الله إن كنتم مؤمنين . وإذا ناديتم إلى الصلاة اتّخذوها هزوا ولعبا ...قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلاّ أن آمنا بالله وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ...كثيرا ما أنزل إليهم طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلّما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين –المائدة 46 وكأنّ بالقرآن يصف وصفا دقيقا واقعنا الأممي الآن إذ يهزأ العالم بديننا ويسخر من إقامتنا للصلاة وينقم منّا لإيماننا بالله وبما جاء به سيّدنا محمدا صلى الله عليه وسلّم ، والحقّ الذي جاء به الاسلام شرعة ومنهاجا التي تصفه الآيات القرآنية تزيدهم طغيانا وكفرا وتجعلهم يصرّون على إشعال الحروب وعلى السعي لإفساد كلّ شيء في الأرض ، وهذا ما يجعلهم مفسدين!!
ويمضي القرآن مخاطبا رسول الله ، الحاكم والقائم بشؤون الحكم قائلا : يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من النّاس إن الله لا يهدي القوم الكافرين-المائدة 67 ، فالمولى عزّ وجلّ لم يكتفي بالتشديد على رسول الله ومن ورائه على كلّ حاكم مؤمن بالإسلام أن يتمسّك بشرع الله فقط بل أن يتولى تبليغه للأمم وللشعوب الأخرى في دلالة على نوع السياسة الخارجيّة الواجب إتباعها باعتبار مسؤوليّته ومسؤوليّة كلّ المسلمين عمّا يحدث في الحياة الدوليّة لإنقاذ كلّ البشر من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وذلك لن يتحقق إلا بحمل هذا الدين رسالة للعالمين.
والسلام