عبد الواحد جعفر
29-04-2011, 03:13 PM
تركيا .. علاقات مزدوجة مع الدول العربية والتنظيمات الإسلامية
عمر كوش
ترتبط تركيا، اليوم، بعلاقات مميزة مع أغلبية البلدان العربية، ومع التنظيمات والحركات الإسلامية العربية كذلك، حيث يتمتع حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا بعلاقات على أكثر من صعيد مع الإخوان المسلمين في مصر والأردن وسورية وسواها، وكذلك مع حركة "حماس" الفلسطينية، وحركة النهضة في تونس وحركة السلم والديمقراطية في الجزائر.
ولا يتوقف ذلك على المستوى الأيديولوجي أو العقائدي، بل يمتد إلى اعتبار التجربة التركية نموذجاً منشوداً لبعض التنظيمات والحركات الإسلامية، يمكن الاستفادة منها والبناء عليها.
وتحظى تركيا بصورة إيجابية لدى شرائح عربية واسعة، تبدي إعجابها بالنموذج التركي، الذي نجح في حلّ إشكالية الدين والدولة وإشكالية التداول السلمي للسلطة، إلى جانب نجاحات تركيا الاقتصادية، الأمر الذي جعلها مقبولة لدى دول المنطقة للتعاون معها، بالنظر إلى الموقع والذاكرة التاريخية المشتركة، وباعتبارها قوة جذب جديدة قد تقدم بديلاً لأدوار قديمة، الأمر الذي منحها مكانة جديدة، ودوراً مهما في لعبة التوازنات والتناقضات الإقليمية، ويجعلها شريكا فاعلاً في رسم السياسات في المنطقة.
ويلاحظ المتتبع للشأن التركي أن حزب العدالة والتنمية، منذ وصوله إلى الحكم في تركيا في انتخابات عام 2002، يتبع منهجاً مزدوجاً في علاقاته العربية، يقوم ـــ من جهة أولى ـــ على مبدأ تصفير المشكلات مع الدول العربية المجاورة، الذي وضعه وزير الخارجية الحالي أحمد داوود أوغلو، بما يفضي إلى تقوية وتوسيع العلاقات الثنائية معها، ويسعى ـــ من جهة ثانية ـــ إلى تقوية العلاقات مع الحركات والتنظيمات الإسلامية المعتدلة في مختلف البلدان العربية.
تركيا والحركات الإسلامية
ينظر الإخوان المسلمون منذ تأسيس جماعتهم إلى تركيا بوصفها دولة الخلافة، ويعتبرونها مصدر حماية الأمة الإسلامية من التشتت والتشرذم والتردي، فاتجهوا في بداية نشاطهم الحزبي ـــ بقدر استطاعتهم ـــ إلى العمل على عودة الخلافة مرة أخرى.
إلا أن علاقة تركيا بالإخوان كانت تتسم بالقطيعة منذ تأسيس مصطفى كمال أتاتورك الدولة العلمانية في تركيا.
وعرفت العقود الأخيرة في تركيا صعوداً ملحوظاً للتيار الإسلامي بشكل عام، بعد أن كان هذا التيار قبيل مرحلة السبعينيات من القرن الـ 20 الماضي مجرد تعبير من عدد من التعبيرات السياسية ضمن ما يعرف بأحزاب وسط اليمين، إلا أنه مع بداية السبعينيات ظهر كحركة سياسية مستقلة بزعامة نجم الدين أربكان، الذي كان قد أسس ما يعرف بحركة الميلي غورش.
وتعرضت الأحزاب الإسلامية لاختبارات صارمة من طرف النظام العلماني، أفضت إلى حلّ الحزب الذي كان يعبر عنها في كل مرة.
ومع ذلك كان الإسلاميون ينجحون في كل مرة في إعادة التعبير عن أنفسهم بحزب جديد، بشكل مغاير وجديد، مصرين على حقهم في الوجود والعمل السياسي، ولا سيما مع ما أبدوه من مقدرة على كسب ثقة قطاعات مهمة من الناخبين الأتراك.
ومع موجة الانفتاح على الحريات في عهد الرئيس تورغت أوزال، خرج نجم الدين أربكان من السجن، وأسس في عام 1983 حزب الرفاه الوطني، الذي شارك في انتخابات العام نفسه، ولم يحصل إلا على 1.5 في المائة من أصوات الناخبين الأتراك، لكنه واصل جهوده السياسية حتى تمكن من الفوز بالأغلبية في انتخابات عام 1996، الأمر الذي مكنه من ترؤس أول حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيللر.
وسعى أربكان، خلال أقل من عام قضاه رئيسا للحكومة التركية، إلى الانفتاح بقوة على العالم الإسلامي، وظهر وكأنه يريد استعادة دور تركيا الإسلامي القيادي، فبدأ ولايته بزيارة إلى كل من ليبيا وإيران، وأعلن عن تشكيل مجموعة الثماني الإسلامية التي تضم إلى جانب تركيا أكبر سبع دول إسلامية: إيران، باكستان، إندونيسيا، مصر، نيجيريا، بنجلادش، وماليزيا.
كما نشط أربكان في العالم الإسلامي، حيث دعا إلى عقد مؤتمر عالمي يضم قيادات العمل الإسلامي، وصارت تركيا في عهده تتدخل بثقلها لحل مشكلات داخلية في دول إسلامية، حيث أرسل في هذا السياق وفوداً لحل خلافات الإسلاميين مع طالبان في أفغانستان.
لكن جنرالات الجيش التركي تقدموا إلى أربكان بمجموعة مطالب كي ينفذها على الفور، تتضمن ما وصفوه بمكافحة الرجعية، وتستهدف وقف كل مظاهر النشاط الإسلامي في تركيا، على المستويات: السياسي والتعليمي والاجتماعي، الأمر الذي اضطر أربكان إلى الاستقالة من منصبه لمنع تطور الأحداث إلى انقلاب عسكري فعلي.
ثم جرى حظر حزب الرفاه في عام 1998، وأحيل أربكان إلى القضاء بتهم مختلفة، ومنع من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات، لكن أربكان لم يغادر الساحة السياسية، فعاد وأسس حزباً جديداً، حمل سم حزب الفضيلة، لكن هذا الحزب سرعان ما تعرض بدوره للحظر في عام 2000.
وفي عام 2001 تأسس حزب العدالة والتنمية، وظهر نجم كل من رجب طيب أردوغان وعبد الله غول، وتمكن هذا الحزب من الوصول إلى الحكم في انتخابات 2002، حيث حصل على 363 نائباً في البرلمان التركي، مشكلا بذلك أغلبية ساحقة، مكنته من حكم تركيا دون منافس قوي.
ومنذ وصوله إلى الحكم، سعى حزب العدالة والتنمية التركي إلى تقوية علاقاته بالأحزاب والتنظيمات الإسلامية في البلدان العربية، حيث وقف إلى جانب حركة حماس الفلسطينية في خلافها مع حركة فتح والسلطة الفلسطينية، نظراً لشعور قادة هذا الحزب بالقرب من جماعة الإخوان المسلمين.
وفي عام 2002، استضافت تركيا عديدا من قادة حركة حماس في إسطنبول وأنقرة، واستضافت بعض اجتماعات هذه الحركة، وفي أحد هذه الاجتماعات الذي عُقد في إسطنبول في نيسان (أبريل) 2008، رحبت تركيا بالزعيم الإسلامي التونسي راشد الغنوشي، الذي يرأس حركة "النهضة" في تونس القريبة لجماعة الإخوان المسلمين.
وعلاوة على ذلك، ومنذ مجيئه إلى السلطة في عام 2002، قام حزب العدالة والتنمية بتطوير علاقات اقتصادية وسياسية وثيقة مع النظم الإسلامية.
وقد حرص قادة الإخوان المسلمين في مصر، وفي سواها، المشاركة في مختلف الاحتفالات في تركيا، وفي جميع المناسبات التي يدعون إليها، ومن بينهم مصطفى مشهور، محمد مهدي عاكف، حسن البنا، محفوظ نحناح، وغيرهم، حيث شارك قادة الإخوان ـــ على سبيل المثال ـــ في حزيران (يونيو) 2006 في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة مرور 553 عاما على فتح القسطنطينية، وهو الاحتفال الذي نظَّمه حزب السعادة التركي، وشارك فيه حسن هويدي نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، وألقى كلمة المرشد العام، كما شارك في الاحتفال عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان ومحمد سعد الكتاتني، رئيس الكتلة البرلمانية لنواب الإخوان المسلمين في مصر في ذلك الوقت.
العلاقات التركية ـــ العربية
في جانب العلاقات مع الدول العربية، شرع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان فور وصوله إلى رئاسة الوزراء بالانفتاح على البلدان العربية، بدءاً من سورية وصولاً إلى بلدان الخليج العربي ومصر.
وبرز التحرك السياسي التركي في المنطقة بشكل واضح من خلال قيام الحكومة التركية، بمهمة الوساطة الصعبة بين إسرائيل وسورية، ونجاحها في جمع الطرفين في إسطنبول أربع مرات، من أجل استئناف المفاوضات، حيث أظهرت تركيا اهتماماً بلعب دور الوسيط بين سورية وإسرائيل منذ عام 2004.
وقد أبدى الإسرائيليون حاجتهم للتفاوض مع سورية لاعتقادهم بأن تركيا تمثل صمام أمان في الشرق الأوسط، بوصفها الدولة المسلمة الوحيدة في المنطقة التي لها علاقات قوية مع إسرائيل في المجالين الدبلوماسي والتجاري، وأن لا أحد باستثناء رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يستطيع أن يلعب دوراً بناءً لإطلاق مفاوضات بين سورية وإسرائيل، بسبب علاقته الشخصية مع الرئيس السوري بشار الأسد.
لكن الحضور التركي في السياسات الشرق أوسطية بلغ أوجه أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة في 24 من كانون الأول (ديسمبر) عام 2008، ونتج عنه تحول مهم في السياسة التركية حيال إسرائيل بسبب هذا العدوان.
وقد تنامى الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط بعد توطد علاقاتها مع سورية، حيث امتد التحرك التركي إلى الملف الفلسطيني بالتنسيق مع مصر، وطاول دورها العراق ولبنان ودول مجلس التعاون الخليجي وسواها.
وأفضى تنامي الدور التركي إلى نسج شبكة من العلاقات والنفوذ في دول المشرق العربي، وإلى التوقيع على اتفاقيات اقتصادية وسياسية مهمة معها، حيث أبرمت حكومة حزب العدالة اتفاقيات ثنائية مع عديد من الدول العربية، وألغت تأشيرات الدخول مع سورية ولبنان والأردن، وتمكنت من تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي مع معظم بلدان المشرق العربي، لذلك يمكن القول إن وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا في عام 2002، شكّل نقطة تحول مفصلية في السياسة التركية حيال البلدان العربية، ويكفي النظر إلى تطور العلاقات مع سورية، بشكل حوّلها من بلد معاد إلى بوابة تركيا العربية، فوقعت معها عام 2004 اتفاقية التجارة الحرة، وتمّ الشروع في تطبيقها عام 2007، فضلاً عن عشرات الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية الأخرى.
ولا يُخفي قادة حزب العدالة والتنمية التركي حنينهم وفخرهم بالماضي العثماني وميراثه، لكن القوى والأحزاب السياسية المناهضة لهم في تركيا تصفهم بالعثمانيين الجدد، بمعنى أنهم يحاولون إحياء الوجه العثماني لتركيا؛ من خلال السعي لإعادة الاشتباك مع قضايا العالم الإسلامي بقوة، التي نأت عنها الحكومات التركية العلمانية السابقة، وإلى مدّ جسور التعاون والتواصل مع جميع دول العالم الإسلامي.
غير أن داوود أوغلو يرى أن تبني العثمانية الجديدة لا يعني السعي إلى أسلمة تركيا أو تبني الطابع الإسلامي للحكومة التركية أو لسياستها، حيث يقول "إن لدينا ميراثا آل إلينا من الدولة العثمانية.
إنهم يقولون عنا إننا العثمانيون الجدد، نعم نحن العثمانيون الجدد، ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا، ونحن ننفتح على العالم كله، حتى في شمال إفريقيا".
كما أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لم يقبل صفة "العثمانيين الجدد" بشكل علني في تصريحاته، لكنه يُذكّر على الدوام بالإرث العثماني لتركيا، ويُذكر على وجه الخصوص الشباب التركي خلال خطاباته بـ "مجد أجدادهم وتسامحهم مع جميع الأقليات الدينية والعرقية التي كانت مطوية في رداء الدولة العثمانية، ودورهم الحضاري في قيادة العالم لعدة قرون".
وباتت تركيا، اليوم، بمثابة الدولة النموذج في منطقتنا، التي تستند إلى علاقات جيدة وإيجابية مع محيطها العربي والإسلامي، إلى جانب نجاحاتها الملحوظة في ميادين التنمية والاقتصاد والديمقراطية وعلاقة الدين بالدولة.
والمأمول هو الإفادة من هذه التجربة بمختلف جوانبها، خاصة أن قادتها يعتبرون أن الدولة التي تريد أن تكون ناجحة في إدارة العلاقات الدولية يتعين على نظامها ومسؤوليها مراعاة التوازن الدقيق بين قوة الأمر الواقع، وقوة الحق الأصيل، وأنه لا يجوز المغامرة بمواجهة قوة الأمر الواقع دون استعداد كاف، مع أنه يمكن إنجاز الكثير في المسافة القائمة بين "قوة الأمر الواقع"، و"قوة الحق الأصيل" في ضوء موازين القوى التي تتحرك باستمرار ولا تعرف السكون أو الجمود.
عمر كوش
ترتبط تركيا، اليوم، بعلاقات مميزة مع أغلبية البلدان العربية، ومع التنظيمات والحركات الإسلامية العربية كذلك، حيث يتمتع حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا بعلاقات على أكثر من صعيد مع الإخوان المسلمين في مصر والأردن وسورية وسواها، وكذلك مع حركة "حماس" الفلسطينية، وحركة النهضة في تونس وحركة السلم والديمقراطية في الجزائر.
ولا يتوقف ذلك على المستوى الأيديولوجي أو العقائدي، بل يمتد إلى اعتبار التجربة التركية نموذجاً منشوداً لبعض التنظيمات والحركات الإسلامية، يمكن الاستفادة منها والبناء عليها.
وتحظى تركيا بصورة إيجابية لدى شرائح عربية واسعة، تبدي إعجابها بالنموذج التركي، الذي نجح في حلّ إشكالية الدين والدولة وإشكالية التداول السلمي للسلطة، إلى جانب نجاحات تركيا الاقتصادية، الأمر الذي جعلها مقبولة لدى دول المنطقة للتعاون معها، بالنظر إلى الموقع والذاكرة التاريخية المشتركة، وباعتبارها قوة جذب جديدة قد تقدم بديلاً لأدوار قديمة، الأمر الذي منحها مكانة جديدة، ودوراً مهما في لعبة التوازنات والتناقضات الإقليمية، ويجعلها شريكا فاعلاً في رسم السياسات في المنطقة.
ويلاحظ المتتبع للشأن التركي أن حزب العدالة والتنمية، منذ وصوله إلى الحكم في تركيا في انتخابات عام 2002، يتبع منهجاً مزدوجاً في علاقاته العربية، يقوم ـــ من جهة أولى ـــ على مبدأ تصفير المشكلات مع الدول العربية المجاورة، الذي وضعه وزير الخارجية الحالي أحمد داوود أوغلو، بما يفضي إلى تقوية وتوسيع العلاقات الثنائية معها، ويسعى ـــ من جهة ثانية ـــ إلى تقوية العلاقات مع الحركات والتنظيمات الإسلامية المعتدلة في مختلف البلدان العربية.
تركيا والحركات الإسلامية
ينظر الإخوان المسلمون منذ تأسيس جماعتهم إلى تركيا بوصفها دولة الخلافة، ويعتبرونها مصدر حماية الأمة الإسلامية من التشتت والتشرذم والتردي، فاتجهوا في بداية نشاطهم الحزبي ـــ بقدر استطاعتهم ـــ إلى العمل على عودة الخلافة مرة أخرى.
إلا أن علاقة تركيا بالإخوان كانت تتسم بالقطيعة منذ تأسيس مصطفى كمال أتاتورك الدولة العلمانية في تركيا.
وعرفت العقود الأخيرة في تركيا صعوداً ملحوظاً للتيار الإسلامي بشكل عام، بعد أن كان هذا التيار قبيل مرحلة السبعينيات من القرن الـ 20 الماضي مجرد تعبير من عدد من التعبيرات السياسية ضمن ما يعرف بأحزاب وسط اليمين، إلا أنه مع بداية السبعينيات ظهر كحركة سياسية مستقلة بزعامة نجم الدين أربكان، الذي كان قد أسس ما يعرف بحركة الميلي غورش.
وتعرضت الأحزاب الإسلامية لاختبارات صارمة من طرف النظام العلماني، أفضت إلى حلّ الحزب الذي كان يعبر عنها في كل مرة.
ومع ذلك كان الإسلاميون ينجحون في كل مرة في إعادة التعبير عن أنفسهم بحزب جديد، بشكل مغاير وجديد، مصرين على حقهم في الوجود والعمل السياسي، ولا سيما مع ما أبدوه من مقدرة على كسب ثقة قطاعات مهمة من الناخبين الأتراك.
ومع موجة الانفتاح على الحريات في عهد الرئيس تورغت أوزال، خرج نجم الدين أربكان من السجن، وأسس في عام 1983 حزب الرفاه الوطني، الذي شارك في انتخابات العام نفسه، ولم يحصل إلا على 1.5 في المائة من أصوات الناخبين الأتراك، لكنه واصل جهوده السياسية حتى تمكن من الفوز بالأغلبية في انتخابات عام 1996، الأمر الذي مكنه من ترؤس أول حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيللر.
وسعى أربكان، خلال أقل من عام قضاه رئيسا للحكومة التركية، إلى الانفتاح بقوة على العالم الإسلامي، وظهر وكأنه يريد استعادة دور تركيا الإسلامي القيادي، فبدأ ولايته بزيارة إلى كل من ليبيا وإيران، وأعلن عن تشكيل مجموعة الثماني الإسلامية التي تضم إلى جانب تركيا أكبر سبع دول إسلامية: إيران، باكستان، إندونيسيا، مصر، نيجيريا، بنجلادش، وماليزيا.
كما نشط أربكان في العالم الإسلامي، حيث دعا إلى عقد مؤتمر عالمي يضم قيادات العمل الإسلامي، وصارت تركيا في عهده تتدخل بثقلها لحل مشكلات داخلية في دول إسلامية، حيث أرسل في هذا السياق وفوداً لحل خلافات الإسلاميين مع طالبان في أفغانستان.
لكن جنرالات الجيش التركي تقدموا إلى أربكان بمجموعة مطالب كي ينفذها على الفور، تتضمن ما وصفوه بمكافحة الرجعية، وتستهدف وقف كل مظاهر النشاط الإسلامي في تركيا، على المستويات: السياسي والتعليمي والاجتماعي، الأمر الذي اضطر أربكان إلى الاستقالة من منصبه لمنع تطور الأحداث إلى انقلاب عسكري فعلي.
ثم جرى حظر حزب الرفاه في عام 1998، وأحيل أربكان إلى القضاء بتهم مختلفة، ومنع من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات، لكن أربكان لم يغادر الساحة السياسية، فعاد وأسس حزباً جديداً، حمل سم حزب الفضيلة، لكن هذا الحزب سرعان ما تعرض بدوره للحظر في عام 2000.
وفي عام 2001 تأسس حزب العدالة والتنمية، وظهر نجم كل من رجب طيب أردوغان وعبد الله غول، وتمكن هذا الحزب من الوصول إلى الحكم في انتخابات 2002، حيث حصل على 363 نائباً في البرلمان التركي، مشكلا بذلك أغلبية ساحقة، مكنته من حكم تركيا دون منافس قوي.
ومنذ وصوله إلى الحكم، سعى حزب العدالة والتنمية التركي إلى تقوية علاقاته بالأحزاب والتنظيمات الإسلامية في البلدان العربية، حيث وقف إلى جانب حركة حماس الفلسطينية في خلافها مع حركة فتح والسلطة الفلسطينية، نظراً لشعور قادة هذا الحزب بالقرب من جماعة الإخوان المسلمين.
وفي عام 2002، استضافت تركيا عديدا من قادة حركة حماس في إسطنبول وأنقرة، واستضافت بعض اجتماعات هذه الحركة، وفي أحد هذه الاجتماعات الذي عُقد في إسطنبول في نيسان (أبريل) 2008، رحبت تركيا بالزعيم الإسلامي التونسي راشد الغنوشي، الذي يرأس حركة "النهضة" في تونس القريبة لجماعة الإخوان المسلمين.
وعلاوة على ذلك، ومنذ مجيئه إلى السلطة في عام 2002، قام حزب العدالة والتنمية بتطوير علاقات اقتصادية وسياسية وثيقة مع النظم الإسلامية.
وقد حرص قادة الإخوان المسلمين في مصر، وفي سواها، المشاركة في مختلف الاحتفالات في تركيا، وفي جميع المناسبات التي يدعون إليها، ومن بينهم مصطفى مشهور، محمد مهدي عاكف، حسن البنا، محفوظ نحناح، وغيرهم، حيث شارك قادة الإخوان ـــ على سبيل المثال ـــ في حزيران (يونيو) 2006 في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة مرور 553 عاما على فتح القسطنطينية، وهو الاحتفال الذي نظَّمه حزب السعادة التركي، وشارك فيه حسن هويدي نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، وألقى كلمة المرشد العام، كما شارك في الاحتفال عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان ومحمد سعد الكتاتني، رئيس الكتلة البرلمانية لنواب الإخوان المسلمين في مصر في ذلك الوقت.
العلاقات التركية ـــ العربية
في جانب العلاقات مع الدول العربية، شرع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان فور وصوله إلى رئاسة الوزراء بالانفتاح على البلدان العربية، بدءاً من سورية وصولاً إلى بلدان الخليج العربي ومصر.
وبرز التحرك السياسي التركي في المنطقة بشكل واضح من خلال قيام الحكومة التركية، بمهمة الوساطة الصعبة بين إسرائيل وسورية، ونجاحها في جمع الطرفين في إسطنبول أربع مرات، من أجل استئناف المفاوضات، حيث أظهرت تركيا اهتماماً بلعب دور الوسيط بين سورية وإسرائيل منذ عام 2004.
وقد أبدى الإسرائيليون حاجتهم للتفاوض مع سورية لاعتقادهم بأن تركيا تمثل صمام أمان في الشرق الأوسط، بوصفها الدولة المسلمة الوحيدة في المنطقة التي لها علاقات قوية مع إسرائيل في المجالين الدبلوماسي والتجاري، وأن لا أحد باستثناء رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يستطيع أن يلعب دوراً بناءً لإطلاق مفاوضات بين سورية وإسرائيل، بسبب علاقته الشخصية مع الرئيس السوري بشار الأسد.
لكن الحضور التركي في السياسات الشرق أوسطية بلغ أوجه أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة في 24 من كانون الأول (ديسمبر) عام 2008، ونتج عنه تحول مهم في السياسة التركية حيال إسرائيل بسبب هذا العدوان.
وقد تنامى الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط بعد توطد علاقاتها مع سورية، حيث امتد التحرك التركي إلى الملف الفلسطيني بالتنسيق مع مصر، وطاول دورها العراق ولبنان ودول مجلس التعاون الخليجي وسواها.
وأفضى تنامي الدور التركي إلى نسج شبكة من العلاقات والنفوذ في دول المشرق العربي، وإلى التوقيع على اتفاقيات اقتصادية وسياسية مهمة معها، حيث أبرمت حكومة حزب العدالة اتفاقيات ثنائية مع عديد من الدول العربية، وألغت تأشيرات الدخول مع سورية ولبنان والأردن، وتمكنت من تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي مع معظم بلدان المشرق العربي، لذلك يمكن القول إن وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا في عام 2002، شكّل نقطة تحول مفصلية في السياسة التركية حيال البلدان العربية، ويكفي النظر إلى تطور العلاقات مع سورية، بشكل حوّلها من بلد معاد إلى بوابة تركيا العربية، فوقعت معها عام 2004 اتفاقية التجارة الحرة، وتمّ الشروع في تطبيقها عام 2007، فضلاً عن عشرات الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية الأخرى.
ولا يُخفي قادة حزب العدالة والتنمية التركي حنينهم وفخرهم بالماضي العثماني وميراثه، لكن القوى والأحزاب السياسية المناهضة لهم في تركيا تصفهم بالعثمانيين الجدد، بمعنى أنهم يحاولون إحياء الوجه العثماني لتركيا؛ من خلال السعي لإعادة الاشتباك مع قضايا العالم الإسلامي بقوة، التي نأت عنها الحكومات التركية العلمانية السابقة، وإلى مدّ جسور التعاون والتواصل مع جميع دول العالم الإسلامي.
غير أن داوود أوغلو يرى أن تبني العثمانية الجديدة لا يعني السعي إلى أسلمة تركيا أو تبني الطابع الإسلامي للحكومة التركية أو لسياستها، حيث يقول "إن لدينا ميراثا آل إلينا من الدولة العثمانية.
إنهم يقولون عنا إننا العثمانيون الجدد، نعم نحن العثمانيون الجدد، ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا، ونحن ننفتح على العالم كله، حتى في شمال إفريقيا".
كما أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لم يقبل صفة "العثمانيين الجدد" بشكل علني في تصريحاته، لكنه يُذكّر على الدوام بالإرث العثماني لتركيا، ويُذكر على وجه الخصوص الشباب التركي خلال خطاباته بـ "مجد أجدادهم وتسامحهم مع جميع الأقليات الدينية والعرقية التي كانت مطوية في رداء الدولة العثمانية، ودورهم الحضاري في قيادة العالم لعدة قرون".
وباتت تركيا، اليوم، بمثابة الدولة النموذج في منطقتنا، التي تستند إلى علاقات جيدة وإيجابية مع محيطها العربي والإسلامي، إلى جانب نجاحاتها الملحوظة في ميادين التنمية والاقتصاد والديمقراطية وعلاقة الدين بالدولة.
والمأمول هو الإفادة من هذه التجربة بمختلف جوانبها، خاصة أن قادتها يعتبرون أن الدولة التي تريد أن تكون ناجحة في إدارة العلاقات الدولية يتعين على نظامها ومسؤوليها مراعاة التوازن الدقيق بين قوة الأمر الواقع، وقوة الحق الأصيل، وأنه لا يجوز المغامرة بمواجهة قوة الأمر الواقع دون استعداد كاف، مع أنه يمكن إنجاز الكثير في المسافة القائمة بين "قوة الأمر الواقع"، و"قوة الحق الأصيل" في ضوء موازين القوى التي تتحرك باستمرار ولا تعرف السكون أو الجمود.