ابو العبد
22-04-2011, 09:57 AM
عرض لفصل من كتاب "الأزمة الاقتصاية العالمية: الكساد العظيم للقرن الحادى والعشرين" لمؤلفيه "ميشيل شوسودوفيسكى" و "أندرو جيفن مرشال"
نشر بموقع جلوبال ريسرش بتاريخ 17 مارس 2011
ترجمة: سامى عزيز
في ختام اجتماعات مجموعة الدول العشرين الكبرى (G20) في لندن أصدرت بياناً بتاريخ 2/4/2009 تضمن الإعلان عن عزم هذه الدول على السعي مجتمعة للخروج بالاقتصاد العالمي من حالة الكساد والحيلولة دون وقوع مثل هذه الأزمات مستقبلاً، وأعلنت الإلتزام بإتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لاستعادة التدفقات الطبيعية للائتمان من خلال النظام المالي وضمان سلامة المؤسسات التي تلعب دوراً محورياً في هذا النظام، وأن تقوم دول مجموعة العشرين بتنفيذ سياساتها في إطار ما تم الاتفاق عليه بشأن إستعادة أنشطة الإقراض وإصلاح القطاع المالي. وقد تم الاتفاق على إجراء تخصيص عام لوحدات حقوق السحب الخاصة general [1]SDR allocation والذي يمكن من خلاله توفير سيولة للاقتصاد العالمي بنحو 250 بليون دولار.
وهنا يثور التساؤل حول ما إذا كانت مجموعة الدول العشرين الكبري (G20) تسعى إلى إنشاء بنك مركزي عالمي، وما هي الجهة التي يمكن أن تقوم بهذا الدور، والتي يمكن أن تتوافر لها السلطة لإصدار عملة عالمية، وأن تفرض سياسة نقدية على كل دول العالم. وعندما التقى مسئولو البنوك المركزية في واشنطن في سبتمبر 2008، وقت حدوث الانهيار المالي، فقد تناولوا بحث ماهية الكيان الذي يمكن له أن يقوم بدور البنك المركزي القادر على مواجهة هذه الأوضاع. وذكر محافظ بنك انجلترا أن الإجابة على هذا السؤال يمكن أن تتمثل في بنك التسويات الدولية (Bank for International Settlements – BIS). وأشار محافظ بنك انجلترا إلى أن صندوق النقد الدولي غالباً ما يوجه تحذيراته بشأن المشكلات الاقتصادية بأسلوب يتسم بالدبلوماسية، في حين أن بنك التسويات الدولية يتمتع باستقلالية أكبر وهو مؤهل بدرجة أكبر للإضطلاع بهذا الدور إذا توافرت له الصلاحيات التي تؤهله للقيام بذلك.
وإذا كانت الرؤية المتعلقة بإنشاء عملة عالمية بعيداً عن سيطرة الحكومات غير كافية لتهدئة مخاوف أصحاب نظرية المؤامرة فإن إسناد جهة إصدارها إلى بنك التسويات الدولية من شأنه أن يهدأ من هذه المخاوف. وقد أنشئ بنك التسويات الدولية (BIS) في مدينة بازل بسويسرا في عام 1930. وقد عرف هذا البنك بأنه من أكثر المؤسسات فوق القومية التي تتمتع بالحصانة والسرية على المستوى العالمي. وكانت اتهامات قد وجهت إلى بنك التسويات الدولية بأنه كانت لديه ميول نازية خلال ثلاثينات القرن الماضي. وقد تبنت الحكومة الأمريكية قراراً أثناء مؤتمر بريتون وودز يطالب بتصفية بنك التسويات الدولية، وقد نجح ممثلو البنوك المركزية الأوروبية في هذا المؤتمر في سحب القرار الأمريكي بهذا الشأن.
وقد كشفت كارول كويجلي في كتابها In Tragedy and Hope: A History of the world in Our Time-1966) عن حقيقة الدور الذي يقوم به بنك التسويات الدولية في مجال التمويل الدولي. وقد عملت الدكتورة كويجلي أستاداً للتاريخ في جامعة جورج تاون، وتعتبر المعلم الخاص للرئيس بيل كلنتون. وقد عملت الدكتورة كويجلي ضمن مجموعة المصرفيين الدوليين (International Bankers): وقد برهنت على مصداقيتها من خلال تبنيها لأهداف هذه المجموعة، حيث كتبت تقول بأنها على علم بطبيعة المعاملات التي تجري من خلال بنك التسويات الدولية، حيث قامت يتتبعتها على مدى 20 عاماً. وقد سُمح لها لمدة عامين في أوائل ستينات القرن الماضي أن تقوم بتفحص أوراقه وسجلاته السرية. وأوضحت الدكتورة كويجلي أنه ليس لديها إعتراض على الجانب الأكبر من هذه المعاملات وأغراضها وأدواتها. وتبقى نقطة الخلاف الأساسية حول الرغبة في إحاطة هذه المعاملات بالسرية، حيث يلعب هذا البنك دوراً مهماً في النظام المالي العالمي مما يستدعي التعرف على هذا الدور.
وتشير كارول كويجلي إلى أن الرأسمالية المالية تسعى من خلال بسط نفوذها إلى تحقيق أهداف بعيدة المدى، ليس أقلها العمل على تكريس نظام عالمي للسيطرة المالية في أيدٍ خاصة تكون قادرة على إخضاع النظام السيادي في كل بلد واقتصاد العالم ككل. إن مثل هذا النظام قد تشكل على النمط الإقطاعي بواسطة البنوك المركزية من خلال جهود منسقة على المستوى العالمي، وذلك من خلال اتفاقات سرية، تم التوصل إليها عبر العديد من الاجتماعات والمؤتمرات الخاصة. ويمثل بنك التسويات الدولية رأس هذا النظام بإعتباره بنكاً خاصاً تمتلكه وتديره البنوك المركزية التي نشأت منذ البداية كمؤسسات خاصة. ويعتمد نجاحهم في هذا الصدد على مدى سيطرتهم وتأثيرهم على النظام النقدي في أي بلد في ذات الوقت الذي تبدو فيه الأمور كما لو كانت تحت سيطرة الحكومة.
ويأتي ما ذكر سابقاً كصدى لما تم وضعه من أسس في القرن الثامن عشر على أيدي مؤسس أعرق العائلات المصرفية في العالم وهو السيد ماير امشيل بور روتشيلد والذي صرح في عام 1791 بالقول "دعوني أصدر وأتحكم في عملة بلد ولن يهمني بعد ذلك أمر من يضع القوانين في ذلك البلد". وقد أرسل ماير أبناءه الخمسة إلى أهم العواصم الرأسمالية في أوروبا وهي لندن وباريس وفينا وبرلين ونابولي. وكانت المهمة الأولى لكل منهم إنشاء نظام مصرفي يكون بمنأي عن سيطرة الحكومة، وبذلك تكون النظم الاقتصادية والسياسية في هذه الدول تحت سيطرة المصرفيين ولمصلحتهم بعيداً عن سيطرة مواطنيها. وعلى هذا الأساس، تم إنشاء بنوك مركزية مملوكة ملكية خاصة في كل بلد. وأصبح نظام البنوك المركزية هذا مسيطراً على اقتصادات العالم، حيث تتمتع البنوك المركزية بسلطة إصدار النقود، وتلجأ الحكومات إلى الاقتراض من البنوك المركزية لتسديد الديون المستحقة عليها وتمويل المعاملات الحكومية. ونتيجة لذلك، فإن الاقتصاد العالمي، بما فيه القطاع الصناعي والحكومة، يعتمد على الائتمان (أو الدين) الذي يوفره القطاع المصرفي بشكل إحتكاري، تقوده شبكة من البنوك المركزية الخاصة، ويقوم على رأس هذه الشبكة بنك التسويات الدولية (BIS) الذي يعتبر البنك المركزي للبنوك المركزية ومقره بازل بسويسرا.
وقد حافظ بنك التسويات الدولية (BIS) على صورته في الظل لسنوات عديدة، حيث ظل يقوم بأعماله متخذاً فندقاً معزولاً مقراً له. وفي ذلك المكان تم اتخاذ قرارات لتخفيض قيمة عملات أو الدفاع عن عملات، وإتخاذ قرارات لتثبيت سعر الذهب، وتنظيم الأنشطة المصرفية فيما وراء البحار(offshore banking)، ورفع أو خفض أسعار الفائدة قصيرة الأجل. وفي عام 1977، تخلى بنك التسويات الدولية عن أسلوب التستر في ممارسة أنشطته ليتحول إلى إدارة هذه الأنشطة من خلال مراكز أكثر كفاءة. ويشغل بنك التسويات الدولية حالياً مبنى يتكون من 18 طابقاً على شكل ناطحة سحاب دائرية، تشبه مفاعلاً نووياً أقيم في غير موضعه، في تلك المدينة التاريخية (بازال) التي تنتمي إلى العصور الوسطى. ويُعرف هذا المبنى الآن بأسم برج بازال (Tower of Basel). ويتمتع بنك التسويات الدولية بحصانة حكومية، ولا يدفع ضرائب، وله قوة بوليس خاصة به. وهو بالضبط كما أراده ماير روتشيلد، فوق القانون.
ويتكون بنك التسويات الدولية من 55 دولة عضو. ولكن الأعضاء (النادي) الذين يلتقون بصورة منتظمة في بازال هم أقل من ذلك بكثير. وحتى داخل هذه المجموعة بوجد تدرج في المستويات (hierarchy). وفي عام 1983 نشرت مجلة Harper’s Magazine مقالاً بعنوانRuhing the World of Money أشار فيها الكاتب Edward Jay Epstein إلى أن الأعمال الحقيقية يجري انجازها من خلال مجموعة صغيرة (نادي ضيق inner club) يتكون من نصف دستة (ستة) من مسئولي البنوك المركزية القوية جداً الذين يدركون أنهم في قارب نقدي واحد (Same monetary boat)، وهم مسئولو البنوك المركزية في كل من ألمانيا والولايات المتحدة وسويسرا وايطاليا واليابان وانجلترا. ويشير كاتب المقال إلى أن المبدأ الأساسي الذي يميز أعضاء المجموعة الصغيرة (النادي الضيق) عن غيره من أعضاء بنك التسويات الدولية هو الاعتقاد الراسخ في أن البنوك المركزية يجب أن تتصرف باستقلالية عن حكومات بلدانها، كما يرتبط بهذا الاعتقاد اعتقاد آخر في أنه لا يجب أن توضع ثقة في السياسيين ليحددوا مصير النظام النقدي الدولي.
وفي عام 1974 تم إنشاء لجنة بازال للرقابة المصرفية The Basel Committee on Banking Supervision) من جانب محافظي البنوك المركزية في الدول العشرة الكبرى (G10)والتي أصبحت الآن (G20). ويتولى بنك التسويات الدولية أمر تعيين الاثني عشر عضوا الذين يمثلون سكرتارية لجنة بازال للرقابة المصرفية. وتقوم هذه اللجنة بوضع القواعد المنظمة للأنشطة المصرفية على المستوى العالمي، ومن بينها ضوابط الاحتياطيات ومتطلبات رأس المال.
وفي عام 2003 كتب Joan Veon مقالاً بعنوان بنك التسويات الدولية يدعو إلى إنشاء عملة عالمية، وأشار في مقاله إلى أن بنك التسويات الدولية يمثل كياناً يلتقي من خلاله كل البنوك المركزية في العالم لتحليل الاقتصاد العالمي وتحديد مسارات العمل التي يمكن لهم من خلالها تكديس المزيد من الأموال في جيوبهم، حيث أنهم يتحكمون في كمية النقد المتداول ومستوى الفائدة التي تتحملها الحكومات والبنوك التي تلجأ إليها هذه الحكومات للاقتراض.
وعندما نكتشف أن بنك التسويات الدولية يمسك بخيوط النظام النقدي العالمي، ندرك أنه يقدر على خلق حالة من الازدهار المالي أو الأزمة في بلد معين، عندما لا ينفذ ذلك البلد ما يريده المقرضون، فيعمدون إلى بيع عملة ذلك البلد.
وقد تجلت سطوة بنك التسويات الدولية في رفع أو ضرب اقتصادات الدول بمناسبة مقررات لجنة بازل التي أصدرها البنك في عام 1988 بشأن رفع نسبة متطلبات رأس مال البنوك من 6% إلى 8% أو ما يعرف بمعدلات كفاية رأس المال. حيث كانت اليابان في ذلك الوقت أكبر دولة دائنة على مستوى العالم، وفي ذات الوقت كانت معدلات كفاية رأس المال للبنوك اليابانية أقل من مثيلاتها لدى البنوك في غيرها من الدول. وقد أدى تنفيذ البنوك اليابانية لمقررات لجنة بازال إلى رفع متطلبات رأس المال وخفض مستويات الإقراض لديها، وهو ما أدى بدوره إلى خلق حالة من الكساد في اليابان تشبه حالة الكساد التي تمر بها الولايات المتحدة حالياً، حيث تراجعت أسعار العقارات وتعثر سداد القروض وتراجعت فرص الإقراض بسبب نقص الضمانات المتوافرة لتقديمها. وقد أعقب ذلك اتجاه هبوطي في الأداء الاقتصادي حتى وصلت البنوك إلى حالة الإفلاس. وقد ترتب على ذلك اتخاذ الحكومة اليابانية إجراءات لتملك حصصاً كبيرة في البنوك.
ومن ناحية أخرى، فقد ترتب على مقررات لجنة بازال حدوث أضرار لا ترتبط بصورة مباشرة بهذه المقررات، ومنها انتشار حالات الانتحار فيما بين المزارعين الهنود نتيجة عجزهم عن الحصول على قروض، حيث تقتضي معايير لجنة بازل بخصوص كفاية رأس المال أن تكون القروض المقدمة للمقترضين من القطاع الخاص مرجحة بالمخاطر (risk weighted) على أساس درجة المخاطر التي تحددها وكالات تصنيف خاصة. ونظراً لعدم قدرة المزارعين وأصحاب الأعمال الصغيرة على دفع مصاريف خدمات تقييم المخاطر من جانب هذه الوكالات، فقد رفعت البنوك درجة المخاطر إلى 100% عند ترجيح أوزان المخاطر للقروض المقدمة لهؤلاء المزارعين وأصحاب الأعمال الصغيرة، ومن ثم قاومت البنوك تقديم القروض إلى هذه الفئة من المقترضين بإعتبارها فئة عالية المخاطر. وعندما صحا ضمير الأمة نتيجة لتزايد حالات الانتحار، وإدراكاً من الحكومة لأوضاع المزارعين وأصحاب الأعمال الصغيرة الذين تجاهلتهم البنوك التجارية، فقد اتبعت الحكومة سياسة لإنهاء حالات الإقصاء المالي للضعفاء. ومع ذلك تبقى هذه السياسة محدودة الأثر نتيجة القيود التي يفرضها بنك التسويات الدولية من الخارج.
نشر بموقع جلوبال ريسرش بتاريخ 17 مارس 2011
ترجمة: سامى عزيز
في ختام اجتماعات مجموعة الدول العشرين الكبرى (G20) في لندن أصدرت بياناً بتاريخ 2/4/2009 تضمن الإعلان عن عزم هذه الدول على السعي مجتمعة للخروج بالاقتصاد العالمي من حالة الكساد والحيلولة دون وقوع مثل هذه الأزمات مستقبلاً، وأعلنت الإلتزام بإتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لاستعادة التدفقات الطبيعية للائتمان من خلال النظام المالي وضمان سلامة المؤسسات التي تلعب دوراً محورياً في هذا النظام، وأن تقوم دول مجموعة العشرين بتنفيذ سياساتها في إطار ما تم الاتفاق عليه بشأن إستعادة أنشطة الإقراض وإصلاح القطاع المالي. وقد تم الاتفاق على إجراء تخصيص عام لوحدات حقوق السحب الخاصة general [1]SDR allocation والذي يمكن من خلاله توفير سيولة للاقتصاد العالمي بنحو 250 بليون دولار.
وهنا يثور التساؤل حول ما إذا كانت مجموعة الدول العشرين الكبري (G20) تسعى إلى إنشاء بنك مركزي عالمي، وما هي الجهة التي يمكن أن تقوم بهذا الدور، والتي يمكن أن تتوافر لها السلطة لإصدار عملة عالمية، وأن تفرض سياسة نقدية على كل دول العالم. وعندما التقى مسئولو البنوك المركزية في واشنطن في سبتمبر 2008، وقت حدوث الانهيار المالي، فقد تناولوا بحث ماهية الكيان الذي يمكن له أن يقوم بدور البنك المركزي القادر على مواجهة هذه الأوضاع. وذكر محافظ بنك انجلترا أن الإجابة على هذا السؤال يمكن أن تتمثل في بنك التسويات الدولية (Bank for International Settlements – BIS). وأشار محافظ بنك انجلترا إلى أن صندوق النقد الدولي غالباً ما يوجه تحذيراته بشأن المشكلات الاقتصادية بأسلوب يتسم بالدبلوماسية، في حين أن بنك التسويات الدولية يتمتع باستقلالية أكبر وهو مؤهل بدرجة أكبر للإضطلاع بهذا الدور إذا توافرت له الصلاحيات التي تؤهله للقيام بذلك.
وإذا كانت الرؤية المتعلقة بإنشاء عملة عالمية بعيداً عن سيطرة الحكومات غير كافية لتهدئة مخاوف أصحاب نظرية المؤامرة فإن إسناد جهة إصدارها إلى بنك التسويات الدولية من شأنه أن يهدأ من هذه المخاوف. وقد أنشئ بنك التسويات الدولية (BIS) في مدينة بازل بسويسرا في عام 1930. وقد عرف هذا البنك بأنه من أكثر المؤسسات فوق القومية التي تتمتع بالحصانة والسرية على المستوى العالمي. وكانت اتهامات قد وجهت إلى بنك التسويات الدولية بأنه كانت لديه ميول نازية خلال ثلاثينات القرن الماضي. وقد تبنت الحكومة الأمريكية قراراً أثناء مؤتمر بريتون وودز يطالب بتصفية بنك التسويات الدولية، وقد نجح ممثلو البنوك المركزية الأوروبية في هذا المؤتمر في سحب القرار الأمريكي بهذا الشأن.
وقد كشفت كارول كويجلي في كتابها In Tragedy and Hope: A History of the world in Our Time-1966) عن حقيقة الدور الذي يقوم به بنك التسويات الدولية في مجال التمويل الدولي. وقد عملت الدكتورة كويجلي أستاداً للتاريخ في جامعة جورج تاون، وتعتبر المعلم الخاص للرئيس بيل كلنتون. وقد عملت الدكتورة كويجلي ضمن مجموعة المصرفيين الدوليين (International Bankers): وقد برهنت على مصداقيتها من خلال تبنيها لأهداف هذه المجموعة، حيث كتبت تقول بأنها على علم بطبيعة المعاملات التي تجري من خلال بنك التسويات الدولية، حيث قامت يتتبعتها على مدى 20 عاماً. وقد سُمح لها لمدة عامين في أوائل ستينات القرن الماضي أن تقوم بتفحص أوراقه وسجلاته السرية. وأوضحت الدكتورة كويجلي أنه ليس لديها إعتراض على الجانب الأكبر من هذه المعاملات وأغراضها وأدواتها. وتبقى نقطة الخلاف الأساسية حول الرغبة في إحاطة هذه المعاملات بالسرية، حيث يلعب هذا البنك دوراً مهماً في النظام المالي العالمي مما يستدعي التعرف على هذا الدور.
وتشير كارول كويجلي إلى أن الرأسمالية المالية تسعى من خلال بسط نفوذها إلى تحقيق أهداف بعيدة المدى، ليس أقلها العمل على تكريس نظام عالمي للسيطرة المالية في أيدٍ خاصة تكون قادرة على إخضاع النظام السيادي في كل بلد واقتصاد العالم ككل. إن مثل هذا النظام قد تشكل على النمط الإقطاعي بواسطة البنوك المركزية من خلال جهود منسقة على المستوى العالمي، وذلك من خلال اتفاقات سرية، تم التوصل إليها عبر العديد من الاجتماعات والمؤتمرات الخاصة. ويمثل بنك التسويات الدولية رأس هذا النظام بإعتباره بنكاً خاصاً تمتلكه وتديره البنوك المركزية التي نشأت منذ البداية كمؤسسات خاصة. ويعتمد نجاحهم في هذا الصدد على مدى سيطرتهم وتأثيرهم على النظام النقدي في أي بلد في ذات الوقت الذي تبدو فيه الأمور كما لو كانت تحت سيطرة الحكومة.
ويأتي ما ذكر سابقاً كصدى لما تم وضعه من أسس في القرن الثامن عشر على أيدي مؤسس أعرق العائلات المصرفية في العالم وهو السيد ماير امشيل بور روتشيلد والذي صرح في عام 1791 بالقول "دعوني أصدر وأتحكم في عملة بلد ولن يهمني بعد ذلك أمر من يضع القوانين في ذلك البلد". وقد أرسل ماير أبناءه الخمسة إلى أهم العواصم الرأسمالية في أوروبا وهي لندن وباريس وفينا وبرلين ونابولي. وكانت المهمة الأولى لكل منهم إنشاء نظام مصرفي يكون بمنأي عن سيطرة الحكومة، وبذلك تكون النظم الاقتصادية والسياسية في هذه الدول تحت سيطرة المصرفيين ولمصلحتهم بعيداً عن سيطرة مواطنيها. وعلى هذا الأساس، تم إنشاء بنوك مركزية مملوكة ملكية خاصة في كل بلد. وأصبح نظام البنوك المركزية هذا مسيطراً على اقتصادات العالم، حيث تتمتع البنوك المركزية بسلطة إصدار النقود، وتلجأ الحكومات إلى الاقتراض من البنوك المركزية لتسديد الديون المستحقة عليها وتمويل المعاملات الحكومية. ونتيجة لذلك، فإن الاقتصاد العالمي، بما فيه القطاع الصناعي والحكومة، يعتمد على الائتمان (أو الدين) الذي يوفره القطاع المصرفي بشكل إحتكاري، تقوده شبكة من البنوك المركزية الخاصة، ويقوم على رأس هذه الشبكة بنك التسويات الدولية (BIS) الذي يعتبر البنك المركزي للبنوك المركزية ومقره بازل بسويسرا.
وقد حافظ بنك التسويات الدولية (BIS) على صورته في الظل لسنوات عديدة، حيث ظل يقوم بأعماله متخذاً فندقاً معزولاً مقراً له. وفي ذلك المكان تم اتخاذ قرارات لتخفيض قيمة عملات أو الدفاع عن عملات، وإتخاذ قرارات لتثبيت سعر الذهب، وتنظيم الأنشطة المصرفية فيما وراء البحار(offshore banking)، ورفع أو خفض أسعار الفائدة قصيرة الأجل. وفي عام 1977، تخلى بنك التسويات الدولية عن أسلوب التستر في ممارسة أنشطته ليتحول إلى إدارة هذه الأنشطة من خلال مراكز أكثر كفاءة. ويشغل بنك التسويات الدولية حالياً مبنى يتكون من 18 طابقاً على شكل ناطحة سحاب دائرية، تشبه مفاعلاً نووياً أقيم في غير موضعه، في تلك المدينة التاريخية (بازال) التي تنتمي إلى العصور الوسطى. ويُعرف هذا المبنى الآن بأسم برج بازال (Tower of Basel). ويتمتع بنك التسويات الدولية بحصانة حكومية، ولا يدفع ضرائب، وله قوة بوليس خاصة به. وهو بالضبط كما أراده ماير روتشيلد، فوق القانون.
ويتكون بنك التسويات الدولية من 55 دولة عضو. ولكن الأعضاء (النادي) الذين يلتقون بصورة منتظمة في بازال هم أقل من ذلك بكثير. وحتى داخل هذه المجموعة بوجد تدرج في المستويات (hierarchy). وفي عام 1983 نشرت مجلة Harper’s Magazine مقالاً بعنوانRuhing the World of Money أشار فيها الكاتب Edward Jay Epstein إلى أن الأعمال الحقيقية يجري انجازها من خلال مجموعة صغيرة (نادي ضيق inner club) يتكون من نصف دستة (ستة) من مسئولي البنوك المركزية القوية جداً الذين يدركون أنهم في قارب نقدي واحد (Same monetary boat)، وهم مسئولو البنوك المركزية في كل من ألمانيا والولايات المتحدة وسويسرا وايطاليا واليابان وانجلترا. ويشير كاتب المقال إلى أن المبدأ الأساسي الذي يميز أعضاء المجموعة الصغيرة (النادي الضيق) عن غيره من أعضاء بنك التسويات الدولية هو الاعتقاد الراسخ في أن البنوك المركزية يجب أن تتصرف باستقلالية عن حكومات بلدانها، كما يرتبط بهذا الاعتقاد اعتقاد آخر في أنه لا يجب أن توضع ثقة في السياسيين ليحددوا مصير النظام النقدي الدولي.
وفي عام 1974 تم إنشاء لجنة بازال للرقابة المصرفية The Basel Committee on Banking Supervision) من جانب محافظي البنوك المركزية في الدول العشرة الكبرى (G10)والتي أصبحت الآن (G20). ويتولى بنك التسويات الدولية أمر تعيين الاثني عشر عضوا الذين يمثلون سكرتارية لجنة بازال للرقابة المصرفية. وتقوم هذه اللجنة بوضع القواعد المنظمة للأنشطة المصرفية على المستوى العالمي، ومن بينها ضوابط الاحتياطيات ومتطلبات رأس المال.
وفي عام 2003 كتب Joan Veon مقالاً بعنوان بنك التسويات الدولية يدعو إلى إنشاء عملة عالمية، وأشار في مقاله إلى أن بنك التسويات الدولية يمثل كياناً يلتقي من خلاله كل البنوك المركزية في العالم لتحليل الاقتصاد العالمي وتحديد مسارات العمل التي يمكن لهم من خلالها تكديس المزيد من الأموال في جيوبهم، حيث أنهم يتحكمون في كمية النقد المتداول ومستوى الفائدة التي تتحملها الحكومات والبنوك التي تلجأ إليها هذه الحكومات للاقتراض.
وعندما نكتشف أن بنك التسويات الدولية يمسك بخيوط النظام النقدي العالمي، ندرك أنه يقدر على خلق حالة من الازدهار المالي أو الأزمة في بلد معين، عندما لا ينفذ ذلك البلد ما يريده المقرضون، فيعمدون إلى بيع عملة ذلك البلد.
وقد تجلت سطوة بنك التسويات الدولية في رفع أو ضرب اقتصادات الدول بمناسبة مقررات لجنة بازل التي أصدرها البنك في عام 1988 بشأن رفع نسبة متطلبات رأس مال البنوك من 6% إلى 8% أو ما يعرف بمعدلات كفاية رأس المال. حيث كانت اليابان في ذلك الوقت أكبر دولة دائنة على مستوى العالم، وفي ذات الوقت كانت معدلات كفاية رأس المال للبنوك اليابانية أقل من مثيلاتها لدى البنوك في غيرها من الدول. وقد أدى تنفيذ البنوك اليابانية لمقررات لجنة بازال إلى رفع متطلبات رأس المال وخفض مستويات الإقراض لديها، وهو ما أدى بدوره إلى خلق حالة من الكساد في اليابان تشبه حالة الكساد التي تمر بها الولايات المتحدة حالياً، حيث تراجعت أسعار العقارات وتعثر سداد القروض وتراجعت فرص الإقراض بسبب نقص الضمانات المتوافرة لتقديمها. وقد أعقب ذلك اتجاه هبوطي في الأداء الاقتصادي حتى وصلت البنوك إلى حالة الإفلاس. وقد ترتب على ذلك اتخاذ الحكومة اليابانية إجراءات لتملك حصصاً كبيرة في البنوك.
ومن ناحية أخرى، فقد ترتب على مقررات لجنة بازال حدوث أضرار لا ترتبط بصورة مباشرة بهذه المقررات، ومنها انتشار حالات الانتحار فيما بين المزارعين الهنود نتيجة عجزهم عن الحصول على قروض، حيث تقتضي معايير لجنة بازل بخصوص كفاية رأس المال أن تكون القروض المقدمة للمقترضين من القطاع الخاص مرجحة بالمخاطر (risk weighted) على أساس درجة المخاطر التي تحددها وكالات تصنيف خاصة. ونظراً لعدم قدرة المزارعين وأصحاب الأعمال الصغيرة على دفع مصاريف خدمات تقييم المخاطر من جانب هذه الوكالات، فقد رفعت البنوك درجة المخاطر إلى 100% عند ترجيح أوزان المخاطر للقروض المقدمة لهؤلاء المزارعين وأصحاب الأعمال الصغيرة، ومن ثم قاومت البنوك تقديم القروض إلى هذه الفئة من المقترضين بإعتبارها فئة عالية المخاطر. وعندما صحا ضمير الأمة نتيجة لتزايد حالات الانتحار، وإدراكاً من الحكومة لأوضاع المزارعين وأصحاب الأعمال الصغيرة الذين تجاهلتهم البنوك التجارية، فقد اتبعت الحكومة سياسة لإنهاء حالات الإقصاء المالي للضعفاء. ومع ذلك تبقى هذه السياسة محدودة الأثر نتيجة القيود التي يفرضها بنك التسويات الدولية من الخارج.