عبد الواحد جعفر
22-03-2011, 04:58 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل الشيخ محمد حسان حفظه الله ورعاه، أسأل الله أن يحفظك وكل المسلمين ويوفقنا وإياك لما يحب ويرضى ويجعلنا أداة لنصرة دينه، ويجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، آمين آمين.
الأخ الكريم،،
إن من أخطر المفاهيم الغربية التي أدخلها الكافر المستعمر في بلاد المسلمين عن طريق غزوه الثقافي: مفهوم "رجال الدين" ومن أخبث التهم وأكذب الحديث التي رَّوجها هذا العدو اللئيم، أن يشبه خليفة المسلمين بالبابا، الذي له القداسة المطلقة، وله الحكم الفصل في كل أمر وقضية.
إن هذه الكلمة "رجال الدين" اصطلاح أجنبي، أطلقه الغربيون على القساوسة والرهبان والأساقفة، وصفاً لهم، وتقريراً لواقعهم، وذلك عندما انتزع رجال الفكر السلطة منهم، وتركوا لهم أمور العبادة والطقوس الدينية يديرونها كيفما يشاؤون، وقد رضي رجال الكنيسة بهذا الحال، ووافقوا على هذا الواقع، فكانت النتيجة أن استقلَّ رجالُ الكنيسة بالسلطة الروحية، واحتفظ السياسيون بالسلطة الزمنية، وبالتالي فصلوا الدين عن الحياة، وعن الدولة والحكم والسياسة وعن شؤون المجتمع وعلاقات الدولة.
وأصبح لرجال الدين إدارة تابعة للكنيسة، كما عرفوا بلباس كهنوتي معين، تختلف أشكاله وألوانه حسب درجات العلم الكهنوتي، وأعطوا لأنفسهم حق التحليل والتحريم من عند أنفسهم.
أما الإسلام فليس فيه رجال الدين ولا رجال دنيا، فكل مسلم هو رجل من رجال الإسلام، وليس في الإسلام سلطة دينية بالمعنى الكهنوتي، ولا سلطة زمنية منفصلة عن الدين، بل السلطة واحدة، تقوم على أساس الإسلام، وتطبق الإسلام وحده، لأن الإسلام دين والدولة جزءٌ منه، والسياسة: هي رعاية شؤون الناس بحكم شرعي من أحكامه؛ والإسلام عقيدة ونظام.
أما كونه عقيدة فلأن أساسه يقوم على الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء والقدر، وتلك هي العقيدة، وقد انبثقت عن هذه العقيدة أنظمة الإسلام في الحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع والعقوبات والبينات والمعاملات.. الخ وهذه الأنظمة أحكام شرعية استنبطها المجتهدون من الأدلة التفصيلية من الكتاب والسنة المطهرة وما استند إليهما وأرشدا إليه.
وقد سمى الإسلام الذين تخصصوا في فهمه بالعلماء والفقهاء والمجتهدين، أما العلماء فلقوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء.. الحديث".
أما الفقهاء فلقوله تعالى {ليتفقهوا في الدين..} الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ويلهمه رشده"، وقول معاذ بن جبل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتهد رأيي ولا آلو".
لذلك كان في الإسلام علماء وفقهاء ومجتهدون، وليس فيه رجال دين بالمعنى المفهوم اليوم، ثم إن هؤلاء العلماء والفقهاء والمجتهدين مهمتهم في الحياة هي حمل الدعوة الإسلامية إلى الناس، وبيان أحكام الله في كل مشكلة أو حادثة، ومن واجبهم مناقشة الحكام ومحاسبة المسؤولين وإبداء النصيحة لهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا هو العمل السياسي؛ لأن السياسة _كما مر ذكره_ هي رعاية شؤون الناس، ومنهم من تولى رئاسة الدولة واشترك في تولي المسؤولية في الحكم، وهذا شيء اعتيادي يتفق مع طبيعة الإسلام؛ لأن الدولة تحكم بالإسلام، وتتولى شؤون الرعية على أساسه، بل من شروط الأفضلية لرئيس الدولة الإسلامية أن يكون عالماً مجتهداً.
وإن من أخطر ما يدعو إليه الغرب هي أفكار الديموقراطية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية والحريات العامة، وما جهد على تسويقه هذه الأيام وتزامناً مع ما حصل في كل من تونس ومصر، وما يتهيأ للحصول في كل من ليبيا واليمن والبحرين، وما يبدو أن المنطقة كلها تسير باتجاهه، هو فكرة "الدولة المدنية"، وبهذه الأفكار فإن أميركا تكون قد أوجدت فكرتها بين المسلمين، وحققت ما كانت تخطط وتسعى له في عقدين من الزمن. والأخطر من ذلك كله هو ما يقوم به بعض الدعاة من نسبة هذه الأفكار إلى الإسلام، وجعلها من الدين، بل من صميمه ومن نصه وروحه، فأدخلوا هذه المفاهيم على الأمة على اعتبار أنها توافق الإسلام ولا تخالفه. ولم يكن لأميركا أن تنجح في نشر أفكارها هذه لولا أن قامت بإلباسها لبوس الإسلام، وكذلك فعلت إنجلترا من قبلها عندما أدخلت القانون المدني للدولة العثمانية، فقد دفعت شيخ الإسلام في حينه إلى تبنيه تحت ذريعة أنه لا يخالف الإسلام.
إن من الأمور المقررة عند المسلمين أن ما يوافق الإسلام وما لا يخالف الإسلام ليس من الإسلام، فالله تعالى يقول مخاطباً المسلمين ممتناً عليهم بقوله {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} ويقول مخاطباً الكفار بقوله {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، ذلك أن الإسلام هو ما جاء وحياً من الله؛ أي ما جاء بالكتاب والسنّة وما أرشد إليه الكتاب والسنّة من أدلة، هذا وحده هو الإسلام، وما عداه كفر سواء أكان موافقاً للإسلام أم كان لا يخالفه. والدليل على ذلك أن الله تعالى أمرنا أن نأخذ ما يأمر به الرسول وأن نترك ما نهانا عنه وأمرنا أن نحتكم إلى رسول الله؛ أي إلى ما جاء به رسول الله. قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} فهو نص في وجوب أخذ ما جاء به الرسول، وترك ما نهى عنه، وإذا قرنت هذه الآية بقوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} وعرف أن {ما} في قوله {وما آتاكم} وقوله {وما نهاكم} للعموم، ظهر جلياً وجوب أخذ ما جاء به وترك ما نهى عنه، وأنه عام في جميع ما أمر به وجميع ما نهى عنه، والطلب في هذه الآية سواء طلب الفعل أو طلب الترك طلب جازم يفيد الوجوب بدليل تهديد الله لمن يخالفه بالعذاب الأليم. وقال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما}، ففي هذه الآية نفى الله الإيمان عمن يحكّم غير الرسول في أفعاله مما يدل على الحصر في التحكيم بما جاء به الرسول، وعلى حرمة الأخذ من غير ما جاء به، وهذا كله صريح في التقيد بما جاء به الإسلام.
فالديموقراطية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية والحريات العامة والدولة المدنية وما شاكل ذلك كلها أفكار كفر، وليست من الإسلام، ويحرم حملها والدعوة إليها. ويجب على أهل العلم من المسلمين أن يتصدوا لهذه الأفكار ببيان واقعها، وفوق ذلك مناقضتها للإسلام، وتحذير المسلمين من أن هذه الأفكار هي الدين الجديد الذي تسعى أميركا لإيجاده في المجتمع؛ ليكون بديلاً عن الإسلام. قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. وإننا _أخي الكريم_ اطلعنا على الورقة التي قدمتها كبرنامج لإصلاح المؤسسة الدينية في مصر، وقد شددت في بدايتها على عدم المس بالمادة الثانية من الدستور المصري، وأنت تعلم _أخي الكريم_ أن الدستور المصري دستور كفر مستمد من دساتير أوروبا الكافرة، وأما المادة الثانية من الدستور المصري فإنها كسائر مواد هذا الدستور، أخذت على غرار الدستور الفرنسي، الذي أخذ على أساس عقيدة فصل الدين عن الحياة، وصيغت مواده على هذا الأساس، بحيث لا تخالف أية مادة هذه العقيدة. وهذه المادة تخالف الإسلام وإن ظن كثيرون ممن يتمسكون بها بأنها توافق الإسلام ولا تخالفه، فحتى لو صح ذلك وكانت هذه المادة توافق الإسلام ولا تخالفه، فإنها حينئذ لا تكون من الإسلام؛ لأنها لم تنبثق منه، وإنما بنيت على أساس عقيدة فصل الدين عن الحياة.
أما أن هذه المادة تخالف الإسلام فذلك واضح من صياغتها، والذين وضعوا هذا الدستور لم ينطلقوا من الإسلام في وضع مواده وإنما بنوا دستورهم هذا على أساس فكرة فصل الدين عن الحياة، فجاءت المادة بهذه الصياغة منسجمة مع ما يريده واضعو الدستور من علمانية الدولة وفصل الدين عن الحياة.
أما من حيث صياغتها فإن نص المادة هو (الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع) وهذه الصياغة مبنية على كون الدين مفصولاً عن الدولة. ذلك أن واقع الدولة أنها كيان تنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات؛ أي أن الدولة هي كيان يقوم على فكرة، فالإسلام ليس صفة للدولة، وإنما أساس لها، فمنه تأخذ الدستور وعنه تنبثق الأنظمة والقوانين. أما إذا كان دين الدولة الإسلام، فإن الدولة في هذه الحالة هي الأساس، والدين طارئ عليها، وصفة لها، والعكس هو الصحيح؛ لأن الإسلام هو الأصل ومنه الدولة، فالإسلام دين منه الدولة.
أما البناء الفكري لورقة "إصلاح المؤسسة الدينية" فإنه يلاحظ عليها أمرين، الأول: أنها ورقة للإصلاح الترقيعي لأنها لا تعنى بتغيير النظام القائم، ولا تعنى بهدم الفكرة التي يقوم عليها النظام، وإيجاد الفكرة الإسلامية مكانها، وإنما تعنى بالإصلاح الترقيعي الذي يقوم على أساس ترقيع النظام القائم بأفكار إصلاحية من الإسلام، وهذا لا يجوز، ذلك أن الإسلام، وهو الدين الكامل، فيه ما يدل على كيفية الإصلاح، عندما يقتضي الواقع إصلاحاً، وفيه ما يدل على كيفية التغيير، عندما يتطلب الواقع تغييراً. أما التغيير، فسواء أكان تغييراً لنفوس الأفراد وحالهم، أو تغييراً للمجتمعات، أو تغييراً لأوضاع الشعوب والأمم، أو تغييراً للدول وأنظمة الحكم فيها، فإنه يجب أن يُبدأ بالأساس الذي يعيش عليه الإنسان أو المجتمعات أو الأوضاع أو الدول. ذلك أن الأساس تنبثق عنه كل الأفكار الفرعية، والمفاهيم التي تحدد سلوك الناس في هذه الحياة. وبناء على هذا الأساس، وما يرتبط به من أفكار جزئية أو فرعية يسعد بها الإنسان أو يشقى، وتنهض بها الأمم أو تنخفض. والأساس الذي يقوم عليه المسلم أو المجتمع الإسلامي هو العقيدة الإسلامية، ويجب أن لا يخرج أي عمل من أعمال المسلم، ولا أي عمل من أعمال الدولة الإسلامية عن العقيدة ومقتضياتها.
أما الإصلاح، وفيه تغيير، ولكنه يتناول الفروع دون الأساس. لسلامة الأساس، أو لتصحيح الأساس وتنقيته مع التسليم بوجوده. والذي ينطبق على هذا الحال الذي نعيش أن الفساد واقع في الأساس الذي تقوم عليه الدولة وليس مجرد فساد في الفروع؛ لذلك كان هذا الواقع يقتضي تغييراً جذرياً وليس مجرد إصلاح.
أما الأمر الثاني فإن الورقة التي قدمتها قامت على تقرير فكرة خطيرة، وهي فصل الدين عن السلطة؛ فهي وإن دعت لاستقلال المؤسسة الدينية (الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء) عن الحكومة، فإنها بدعوتها هذه تستبطن أن الدين مفصول عن الدولة، وهذا ليس من الإسلام في شيء؛ لأن أساس الدولة يجب أن يكون قائماً على العقيدة الإسلامية، وأن الجميع تحت سلطان الإسلام، والجميع مخاطبون بأحكام الشرع، سواء أكان في شؤون الحكم أم الاقتصاد أم الاجتماع أم التعليم أم سائر أمور الحياة، ولم يعرف المسلمون هذا الفصل إلا في العصور المتأخرة نتيجة الغزو الفكري والثقافي الذي قام به الغرب الكافر لبلاد المسلمين وعقولهم، وترويجه لفكرته التي قام عليها ونهض على أساسها وهي فكرة "فصل الدين عن الدولة" حيث كان يخاطب المسلمين أواخر الدولة العثمانية أنه لن تقوم لهم قائمة حتى يفصلوا الدين عن الدولة، وحتى يعزلوا الخليفة عن شؤون الحياة، تشبيهاً منهم لخليفة المسلمين ببابا النصارى. فوجدت لذلك فكرة "فصل الدين عن الدولة" وبنيت على أساس هذه الفكرة الأنظمة القائمة في العالم الإسلامي بعد سقوط الخلافة سنة 1924م، متوارثة نظام الحكم عن سابقتها حتى اليوم.
الأخ الفاضل الشيخ محمد حسان حفظه الله ورعاه، أسأل الله أن يحفظك وكل المسلمين ويوفقنا وإياك لما يحب ويرضى ويجعلنا أداة لنصرة دينه، ويجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، آمين آمين.
الأخ الكريم،،
إن من أخطر المفاهيم الغربية التي أدخلها الكافر المستعمر في بلاد المسلمين عن طريق غزوه الثقافي: مفهوم "رجال الدين" ومن أخبث التهم وأكذب الحديث التي رَّوجها هذا العدو اللئيم، أن يشبه خليفة المسلمين بالبابا، الذي له القداسة المطلقة، وله الحكم الفصل في كل أمر وقضية.
إن هذه الكلمة "رجال الدين" اصطلاح أجنبي، أطلقه الغربيون على القساوسة والرهبان والأساقفة، وصفاً لهم، وتقريراً لواقعهم، وذلك عندما انتزع رجال الفكر السلطة منهم، وتركوا لهم أمور العبادة والطقوس الدينية يديرونها كيفما يشاؤون، وقد رضي رجال الكنيسة بهذا الحال، ووافقوا على هذا الواقع، فكانت النتيجة أن استقلَّ رجالُ الكنيسة بالسلطة الروحية، واحتفظ السياسيون بالسلطة الزمنية، وبالتالي فصلوا الدين عن الحياة، وعن الدولة والحكم والسياسة وعن شؤون المجتمع وعلاقات الدولة.
وأصبح لرجال الدين إدارة تابعة للكنيسة، كما عرفوا بلباس كهنوتي معين، تختلف أشكاله وألوانه حسب درجات العلم الكهنوتي، وأعطوا لأنفسهم حق التحليل والتحريم من عند أنفسهم.
أما الإسلام فليس فيه رجال الدين ولا رجال دنيا، فكل مسلم هو رجل من رجال الإسلام، وليس في الإسلام سلطة دينية بالمعنى الكهنوتي، ولا سلطة زمنية منفصلة عن الدين، بل السلطة واحدة، تقوم على أساس الإسلام، وتطبق الإسلام وحده، لأن الإسلام دين والدولة جزءٌ منه، والسياسة: هي رعاية شؤون الناس بحكم شرعي من أحكامه؛ والإسلام عقيدة ونظام.
أما كونه عقيدة فلأن أساسه يقوم على الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء والقدر، وتلك هي العقيدة، وقد انبثقت عن هذه العقيدة أنظمة الإسلام في الحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع والعقوبات والبينات والمعاملات.. الخ وهذه الأنظمة أحكام شرعية استنبطها المجتهدون من الأدلة التفصيلية من الكتاب والسنة المطهرة وما استند إليهما وأرشدا إليه.
وقد سمى الإسلام الذين تخصصوا في فهمه بالعلماء والفقهاء والمجتهدين، أما العلماء فلقوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء.. الحديث".
أما الفقهاء فلقوله تعالى {ليتفقهوا في الدين..} الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ويلهمه رشده"، وقول معاذ بن جبل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتهد رأيي ولا آلو".
لذلك كان في الإسلام علماء وفقهاء ومجتهدون، وليس فيه رجال دين بالمعنى المفهوم اليوم، ثم إن هؤلاء العلماء والفقهاء والمجتهدين مهمتهم في الحياة هي حمل الدعوة الإسلامية إلى الناس، وبيان أحكام الله في كل مشكلة أو حادثة، ومن واجبهم مناقشة الحكام ومحاسبة المسؤولين وإبداء النصيحة لهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا هو العمل السياسي؛ لأن السياسة _كما مر ذكره_ هي رعاية شؤون الناس، ومنهم من تولى رئاسة الدولة واشترك في تولي المسؤولية في الحكم، وهذا شيء اعتيادي يتفق مع طبيعة الإسلام؛ لأن الدولة تحكم بالإسلام، وتتولى شؤون الرعية على أساسه، بل من شروط الأفضلية لرئيس الدولة الإسلامية أن يكون عالماً مجتهداً.
وإن من أخطر ما يدعو إليه الغرب هي أفكار الديموقراطية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية والحريات العامة، وما جهد على تسويقه هذه الأيام وتزامناً مع ما حصل في كل من تونس ومصر، وما يتهيأ للحصول في كل من ليبيا واليمن والبحرين، وما يبدو أن المنطقة كلها تسير باتجاهه، هو فكرة "الدولة المدنية"، وبهذه الأفكار فإن أميركا تكون قد أوجدت فكرتها بين المسلمين، وحققت ما كانت تخطط وتسعى له في عقدين من الزمن. والأخطر من ذلك كله هو ما يقوم به بعض الدعاة من نسبة هذه الأفكار إلى الإسلام، وجعلها من الدين، بل من صميمه ومن نصه وروحه، فأدخلوا هذه المفاهيم على الأمة على اعتبار أنها توافق الإسلام ولا تخالفه. ولم يكن لأميركا أن تنجح في نشر أفكارها هذه لولا أن قامت بإلباسها لبوس الإسلام، وكذلك فعلت إنجلترا من قبلها عندما أدخلت القانون المدني للدولة العثمانية، فقد دفعت شيخ الإسلام في حينه إلى تبنيه تحت ذريعة أنه لا يخالف الإسلام.
إن من الأمور المقررة عند المسلمين أن ما يوافق الإسلام وما لا يخالف الإسلام ليس من الإسلام، فالله تعالى يقول مخاطباً المسلمين ممتناً عليهم بقوله {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} ويقول مخاطباً الكفار بقوله {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، ذلك أن الإسلام هو ما جاء وحياً من الله؛ أي ما جاء بالكتاب والسنّة وما أرشد إليه الكتاب والسنّة من أدلة، هذا وحده هو الإسلام، وما عداه كفر سواء أكان موافقاً للإسلام أم كان لا يخالفه. والدليل على ذلك أن الله تعالى أمرنا أن نأخذ ما يأمر به الرسول وأن نترك ما نهانا عنه وأمرنا أن نحتكم إلى رسول الله؛ أي إلى ما جاء به رسول الله. قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} فهو نص في وجوب أخذ ما جاء به الرسول، وترك ما نهى عنه، وإذا قرنت هذه الآية بقوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} وعرف أن {ما} في قوله {وما آتاكم} وقوله {وما نهاكم} للعموم، ظهر جلياً وجوب أخذ ما جاء به وترك ما نهى عنه، وأنه عام في جميع ما أمر به وجميع ما نهى عنه، والطلب في هذه الآية سواء طلب الفعل أو طلب الترك طلب جازم يفيد الوجوب بدليل تهديد الله لمن يخالفه بالعذاب الأليم. وقال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما}، ففي هذه الآية نفى الله الإيمان عمن يحكّم غير الرسول في أفعاله مما يدل على الحصر في التحكيم بما جاء به الرسول، وعلى حرمة الأخذ من غير ما جاء به، وهذا كله صريح في التقيد بما جاء به الإسلام.
فالديموقراطية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية والحريات العامة والدولة المدنية وما شاكل ذلك كلها أفكار كفر، وليست من الإسلام، ويحرم حملها والدعوة إليها. ويجب على أهل العلم من المسلمين أن يتصدوا لهذه الأفكار ببيان واقعها، وفوق ذلك مناقضتها للإسلام، وتحذير المسلمين من أن هذه الأفكار هي الدين الجديد الذي تسعى أميركا لإيجاده في المجتمع؛ ليكون بديلاً عن الإسلام. قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. وإننا _أخي الكريم_ اطلعنا على الورقة التي قدمتها كبرنامج لإصلاح المؤسسة الدينية في مصر، وقد شددت في بدايتها على عدم المس بالمادة الثانية من الدستور المصري، وأنت تعلم _أخي الكريم_ أن الدستور المصري دستور كفر مستمد من دساتير أوروبا الكافرة، وأما المادة الثانية من الدستور المصري فإنها كسائر مواد هذا الدستور، أخذت على غرار الدستور الفرنسي، الذي أخذ على أساس عقيدة فصل الدين عن الحياة، وصيغت مواده على هذا الأساس، بحيث لا تخالف أية مادة هذه العقيدة. وهذه المادة تخالف الإسلام وإن ظن كثيرون ممن يتمسكون بها بأنها توافق الإسلام ولا تخالفه، فحتى لو صح ذلك وكانت هذه المادة توافق الإسلام ولا تخالفه، فإنها حينئذ لا تكون من الإسلام؛ لأنها لم تنبثق منه، وإنما بنيت على أساس عقيدة فصل الدين عن الحياة.
أما أن هذه المادة تخالف الإسلام فذلك واضح من صياغتها، والذين وضعوا هذا الدستور لم ينطلقوا من الإسلام في وضع مواده وإنما بنوا دستورهم هذا على أساس فكرة فصل الدين عن الحياة، فجاءت المادة بهذه الصياغة منسجمة مع ما يريده واضعو الدستور من علمانية الدولة وفصل الدين عن الحياة.
أما من حيث صياغتها فإن نص المادة هو (الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع) وهذه الصياغة مبنية على كون الدين مفصولاً عن الدولة. ذلك أن واقع الدولة أنها كيان تنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات؛ أي أن الدولة هي كيان يقوم على فكرة، فالإسلام ليس صفة للدولة، وإنما أساس لها، فمنه تأخذ الدستور وعنه تنبثق الأنظمة والقوانين. أما إذا كان دين الدولة الإسلام، فإن الدولة في هذه الحالة هي الأساس، والدين طارئ عليها، وصفة لها، والعكس هو الصحيح؛ لأن الإسلام هو الأصل ومنه الدولة، فالإسلام دين منه الدولة.
أما البناء الفكري لورقة "إصلاح المؤسسة الدينية" فإنه يلاحظ عليها أمرين، الأول: أنها ورقة للإصلاح الترقيعي لأنها لا تعنى بتغيير النظام القائم، ولا تعنى بهدم الفكرة التي يقوم عليها النظام، وإيجاد الفكرة الإسلامية مكانها، وإنما تعنى بالإصلاح الترقيعي الذي يقوم على أساس ترقيع النظام القائم بأفكار إصلاحية من الإسلام، وهذا لا يجوز، ذلك أن الإسلام، وهو الدين الكامل، فيه ما يدل على كيفية الإصلاح، عندما يقتضي الواقع إصلاحاً، وفيه ما يدل على كيفية التغيير، عندما يتطلب الواقع تغييراً. أما التغيير، فسواء أكان تغييراً لنفوس الأفراد وحالهم، أو تغييراً للمجتمعات، أو تغييراً لأوضاع الشعوب والأمم، أو تغييراً للدول وأنظمة الحكم فيها، فإنه يجب أن يُبدأ بالأساس الذي يعيش عليه الإنسان أو المجتمعات أو الأوضاع أو الدول. ذلك أن الأساس تنبثق عنه كل الأفكار الفرعية، والمفاهيم التي تحدد سلوك الناس في هذه الحياة. وبناء على هذا الأساس، وما يرتبط به من أفكار جزئية أو فرعية يسعد بها الإنسان أو يشقى، وتنهض بها الأمم أو تنخفض. والأساس الذي يقوم عليه المسلم أو المجتمع الإسلامي هو العقيدة الإسلامية، ويجب أن لا يخرج أي عمل من أعمال المسلم، ولا أي عمل من أعمال الدولة الإسلامية عن العقيدة ومقتضياتها.
أما الإصلاح، وفيه تغيير، ولكنه يتناول الفروع دون الأساس. لسلامة الأساس، أو لتصحيح الأساس وتنقيته مع التسليم بوجوده. والذي ينطبق على هذا الحال الذي نعيش أن الفساد واقع في الأساس الذي تقوم عليه الدولة وليس مجرد فساد في الفروع؛ لذلك كان هذا الواقع يقتضي تغييراً جذرياً وليس مجرد إصلاح.
أما الأمر الثاني فإن الورقة التي قدمتها قامت على تقرير فكرة خطيرة، وهي فصل الدين عن السلطة؛ فهي وإن دعت لاستقلال المؤسسة الدينية (الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء) عن الحكومة، فإنها بدعوتها هذه تستبطن أن الدين مفصول عن الدولة، وهذا ليس من الإسلام في شيء؛ لأن أساس الدولة يجب أن يكون قائماً على العقيدة الإسلامية، وأن الجميع تحت سلطان الإسلام، والجميع مخاطبون بأحكام الشرع، سواء أكان في شؤون الحكم أم الاقتصاد أم الاجتماع أم التعليم أم سائر أمور الحياة، ولم يعرف المسلمون هذا الفصل إلا في العصور المتأخرة نتيجة الغزو الفكري والثقافي الذي قام به الغرب الكافر لبلاد المسلمين وعقولهم، وترويجه لفكرته التي قام عليها ونهض على أساسها وهي فكرة "فصل الدين عن الدولة" حيث كان يخاطب المسلمين أواخر الدولة العثمانية أنه لن تقوم لهم قائمة حتى يفصلوا الدين عن الدولة، وحتى يعزلوا الخليفة عن شؤون الحياة، تشبيهاً منهم لخليفة المسلمين ببابا النصارى. فوجدت لذلك فكرة "فصل الدين عن الدولة" وبنيت على أساس هذه الفكرة الأنظمة القائمة في العالم الإسلامي بعد سقوط الخلافة سنة 1924م، متوارثة نظام الحكم عن سابقتها حتى اليوم.